مقاييس البطولة تغيرت وأصبحت عند المحدثين خيرا منها عند الأقدمين بعدما أزاح أهل العلم الحديث ستائر القدم.
بقلم: على جمال الدين ناصف
تبدى لي أن كل الظواهر تدل على أن الجيل الحاضر أحسن استعدادا، وأشد ملاءمة لكثرة النبوغ وازدياد البطولة، فقد كثر العلم وسهل التعليم، ومهدت كل الوسائل للتربية والتثقيف، وكثر عدد المتعلمين في كل أمة، وفتح المجال أمام الجميع المرأة مثل الرجل بعدما كان في مجتمعاتنا قديما قيود على تعليم المرأة، فأصبحت وسائل النبوغ ممهدة للجنسين على السواء، وتقطر العلم إلى العامة من الناس، فأصبحوا يشاطرون العارفين بعض المعرفة، وانتشرت الصحف والمجلات والفضائيات ونقل المعلومات وتبادل الثقافات بين شعوب العالم، حتى بدا أن العالم كله أصبح قرية صغيرة. كل هذا كان يجب أن يكون إرهاصا لكثرة النبوغ والتفنن في البطولة، لا لندرة النبوغ والبطولة، مما يبدو أن الأمم أصيبت كلها بهذا العقم، وكان مقتضى الظاهر أن لكثرة المواليد يزيد في كثرة النابغين، وكان أيضا مقتضى الظاهر أن عصر النور يولد من الأشخاص الممتازين أكثر مما يولد عصر الظلام. هذا وقد يبدو لي مع شديد الأسف، أن الظاهرة صحيحة، وأن الجيل الحاضر في الأمم المختلفه لا يولد كثيرا من النوابغ، ولا ينتج كثيرا من الأبطال، وأن طابع هذه العصور هو طابع المألوف والمعتاد، لا طابع النابغة والبطل. ولو عدنا بالذاكرة للوراء وفيما فات من الزمان لنسأل الآن عن: - هل تجد مؤلفا في الأغانى كأبي الفرج الأصفهاني؟ - هل تجد في ساسة الأمم أمثال عمر بن الخطاب وعمر بن عبدالعزيز؟ - هل تجد في الشعر العربى أمثال بشار، وأبي نواس، وابن الرومي، وأبي العلاء؟ - هل تجد في النثر أمثال ابن المقفع والجاحظ، وسهل بن هارون وعمرو بن مسعدة؟ - هل تجد في قيادة الحروب أمثال خالد بن الوليد، وأبى عبيدة؟ - هل تجد في الغناء أمثال أم كلثوم وأسمهان ومحمد عبدالوهاب وفريد الأطرش وعبدالحليم حافظ؟ كما أنه من المستغرب أن الغرب يشكون شكايتنا، ويلاحظون عندهم ملاحظتنا، فيقولون إن ليس عندهم في حاضرهم أمثال فجنر وبيتهوفن، ولا أمثال شكسبير وجوته، ولا أمثال دارون وسبنسر، ولا مثال نابليون وبسمارك. فما الأسباب التي أدت إلى ندرة النابغة والبطولة؟ قد يعزى ذلك على ما يبدو – أن الناس سما مثلهم الأعلى من النابغة والبطل، فلا يسمون نابغا أو بطلا إلا من حاز صفات كثيرة ممتازة قل أن تتحقق، وهذا بالأمر الطبيعي، فكلما ارتقى الناس أرتقى مثلهم الأعلى. ومن عهد ليس ببعيد كان من يقرأ ويكتب شخصا ممتازا لأنه كان نادرا وقليلا، فكان ينظر له نظرة احترام وتبجيل، فما أن كثر التعليم بعض الشيء، فكان من حصل على الشهادة الابتدائية شخص ممتاز، بعدها من حصل على البكالوريا (الثانوية العامة) شابا ممتازا. ثم إلى الشهادة العليا، ثم الماجستير، ثم الدكتوراه، ثم أصبحت هذه أيضا ليست محل امتياز، وارتفعت درجة النبوغ إلى شيء وراء هذا كله. ويذكر أن معظم الناس استنارت أذهانهم إلى حد بعيد، واكتشفوا سر العظمة، وبالتالى أصبحت العظمه المعتادة لا تروعهم، إنما يروعهم الخارق للعادة، فأين هي تحت هذه الأضواء الكاشفة، ثم يأتي بعد ذلك شعور الناس بعظمتهم وبشخصيتهم، وفي الغالب تأتي البطولة عندما يسلس الناس زمام نفوسهم للبطل، فهم بطاعتهم له واستسلامهم لأمره وإشارته يزيدون من عظمته، ويغذون بطولته. فإن كانت الحالة هكذا والناس يشعرون بعظمة أنفسهم، وبالتالى قلت طاعتهم وقل تبجيلهم وخضوعهم لكائن من كان، فهم بذلك لا يفسحون للبطل بطولته فلا يكون. وأعتقد أنه لو وجد اليوم شخص في أخلاق وصفات ومميزات مثل نابليون ما استطاع أن يحقق ما حققه في عصرنا هذا، ولا كان إلا رجلا عاديا أو تميز بقدر ضئيل عن العادي. ولما كانت الأسباب التي ذكرت تؤذن بكثرة النوابغ، وهي أيضا التي قللت النوابغ، فكثرة العلم واستفادة الناس جعلت النبوغ عسيرا لا سهلا يسيرا. وتصديقا لذلك أن الأمم فيما مضت كانت تمنح المشعوذين والمخرفين ألقاب البطولة، وتنظر إليهم نظرة تفوق ونبوغ، ولما فتح الناس عيونهم وعقلوا بعد غفلتهم، واكتشفوا حيلهم ومكرهم لم تعد لهم هذه المكانة. وحل محلهم المصلحون الاجتماعيون الذين يخدمون أمتهم بعملهم. ومعنى ذلك أن الشعوذة والمخرفة حل محلها مقياس المنفعة، وسار الناس في طريق التقدير الصحيح، وهو الاحترام والتبجيل على قدر ما يصدر من الشخص من خير عام حقيقي. كما أن مقاييس البطولة تغيرت، وأصبحت عند المحدثين خيرا منها عند الأقدمين، بعدما أزاح أهل العلم الحديث ستائر القدم، وتبين البطل في صورته الحقيقية، فقد ارتفع شأن البعض وأحيانا ارتفع الستار عن لا بطل. ولهذا نجد كثيرا من المعاصريين هم في الحقيقة نوابغ، ويفوقون بمراحل بعض نوابغ الأقدمين، ولكننا لم نمنحهم بعد لقب البطولة للأسباب التي أشرنا إليها من قبل، من أننا رفعنا إلى حد بعيد المثل الأعلى للنبوغ، ولأننا نحلل النابغ ونكتشف سره، ولأنه معاصر والمعاصرة تتبدى لي أعدى أعداء الاعتراف بالنبوغ. ولعلي بذلك أصل إلى حقيقه أن كثرة النبوغ تضيع الاعتراف بالنبوغ، فكل أمة راقية الآن لديها عدد كبير من المتفوقين في كل فرع من فروع العلم والفن، فلم كثر هؤلاء في كل أمة أصبح من الصعب أن تميز أكبر متفوق منهم لتمنحه صفة النبوغ، كما يصبح من العسير أن نسميهم كلهم نوابغ، هذا لأن النبوغ بحكم اسمه ومعناه يتطلب الندرة، فلما كثر النابغون أضاعوا اسم النبوغ. وعلى العكس من ذلك فالأمم المنحطة، لما لم يوجد فيها إلا سياسي واحد أو إعلامي واحد أو فنان واحد كان من السهل أن يمنح لقب النبوغ. ويأتى دور الديموقراطية التي تسود الناس في العصور الاخيرة، وقد نادت بالمساواة وألحت في الطلب وأوجدت بذلك في الشعوب حالة نفسية كان لها أكبر الأثر في موضوعنا هذا، حيث أصبح الناس لا يؤمنون بتفوق كبير، وبتقليل الفوارق ذابت الفوارق مثلما اتسع البحر فقل عمقه، وكثر المتعلمون وقلَّ النابغون، فقد كان من يتفوق في الماضي يصادف عقبات لا حد لها من الصعوبة، فكان من الطبيعي ألا يجتازها إلا القليل، وكان من يجتازها تتشكل لديه الحصانة الطبيعية، ويتعود على اجتياز العقبات واحتمال المشقة فكان ذلك سبب النبوغ. هذا وقد أصبح التعلم ميسرا فكثر عدد المتعليمين وقل عدد النابغين. علي جمال الدين ناصف ـ بورسعيد (مصر)